الرجولة والشهرة ومفاهيم أخرى للتأمل / الشيخ بحيد بن الشيخ يربان
بسم الله، والحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وآله وصحبه أجمعين..
أما بعد:
فقد حدث خلال السنوات الأخيرة تغيُّرٌ لبعض المفاهيم المهمة في ثقافتنا العربية الإسلامية، نتيجةً لقلة الفقه في الدين وضَعفِ التحصين من جهة، وانتشار وسائل الاتصال والإعلام من جهة أخرى.
الأمر الذي انعكس سلبًا على قيم البعض وأخلاقهم وسلوكهم للأسف.
وهأنذا اليوم أقدِّم الجزء الأول من تصحيح تلك المفاهيم وتقويمها.
وقد صُغتُها في عبارات جزلة جامعة، وبأسلوب مختصرٍ رصين، يناسب عصر السرعة، وليَسهُل حفظُها على مَن أراده.
(1) الرُّجُولَةُ
الرُّجُولَةُ مَعْنًى زَائِدٌ على الذُّكورَةِ ؛ فَهِيَ دِينٌ وَإنسانِيَّةٌ ، وَمَواقِفٌ وَحِكْمَةٌ. ولا يُوصَفُ بِالرُّجولَةِ إلّا مَن كانَ صادِقاً معَ رَبِّهِ جَلَّ وعلا رَحِيماً بخَلْقِهِ ، وَفِياً لِعَهْدِهِ ، سَديداً في رَأيِهِ.
وَهذا يَقْتَضي أن يكُونَ الرَّجُلُ تارِكاً لِلظُّلْمِ وَالسّفاسِفِ وَالسَّفاهاتِ ، وَمُتَشَبِّثاً بالمَعالي وَالنَّخْوَةِ وَالشَّهامَةِ ،وَالسُّؤْدَدِ وَسائِرِ المَكَرُماتِ.
فَلا تُقاسُ الرُّجولَةُ بالمَناصِبِ وَالغِنَى ، ولا بِالشّهاداتِ وَ النَّياشِينِ، فَتِلْكَ وَسائِلٌ لها حُكْمُ مَقاصِدِها ، وَإنَّما تَكُونُ الرُّجولَةُ بِالتَّمَسُّكِ بالدّينِ ومُراعاةِ مَكارِمِ الأخلاقِ، وَالقِيامِ بِمَصالِحِ النَّاسِ ، وَمُشارَكَتِهِم هُمُومَهُم وَتَطَلُّعاتِهِمْ ، وَالصَّبْرِ على النّوائِبِ ، وَالشَّجاعَةِ في الحَقِّ ، وَتَجَنُّبِ خَوارِمِ المُرُوءَةِ مهما كانت حَرارَةُ المَواقِفِ وَشِدَّةِ الأزَماتِ.
وَالمُحافَظَة على حُقوقِ الأمَّةِ وثَوابِتِها ، وَثَرَواتِها وَ سِيادَتِها.
وَقَد قالَ العُلماءُ : (عِبادَةُ الرِّجالِ مَنافِعُ المُسلمِينَ) ، وَبِمِثْلِ هذا يَأمَنُ الرّجالُ منَ الفَواجِعِ لِقَولِ النَّبيّ صلى الله عليهِ وآله وسلّم: (صَنائِعُ المَعْروفِ تَقِي مَصارِعَ السُّوءِ) [رواهُ الطّبرانيُّ].
وقال اللّهُ تعالى: (مِّنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ ۖ فَمِنْهُم مَّن قَضَىٰ نَحْبَهُ وَمِنْهُم مَّن يَنتَظِرُ ۖ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا)[الأحزاب: 23]، وقالت أمُّنا خديجة رضي اللّهُ عنها لِنَبِيِّنا مُحمد صلى الله عليهِ وآله وسلّم: (إنَّكَ لَتَصِلُ الرَّحِمَ وَتَصْدُقُ الحَدِيثَ، وَتَحْمِلُ الكَلَّ ، وَتَكْسِبُ المَعْدومَ، وَ تَقْرِي الضَّيْفَ ، وَتُعِينُ على نَوائِبِ الحَقِّ) [رواه البخاريُّ ومسلم].
(2) الشُّهْرَةُ
الشُّهْرَةُ إشْهَادٌ لِلنَّاسِ ؛ فَإن وَقَعَتْ عَرَضاً مِن غَيرِ قَصْدٍ وَلا تَشَوُّفٍ ،وَارتَبَطَتْ بِالخَيْرِ كانَتْ نِعْمَةً وَشَرَفاً، وَإن ارْتَبطَت بالشَّرِّ كَانَت نِقْمَةً وَخِسَّةً.
وَطَلَبُ الشُّهْرَةِ بِالطَّاعاتِ سُمْعَةٌ وَرِيَاءٌ ، وَطَلَبُها بِالمَعاصِي فُسُوقٌ وَفُجُورٌ.
فَالوَاجِبُ عَلى المُسْلِمِ عِبادَةُ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ وَفِعْلُ الخَيْرِ بِتَجَرُّدٍ وَإِخْلاصٍ ، وَلا يَلْتَفِتُ إلى الشُّهْرَةِ وَغَيرِها مِن أمْراضِ النُّفوسِ وَالقُلوبِ.
فَما كُلُّ مَشْهورٍ مَمْدوحٌ وَمَا كُلُّ مَغْمورٍ مَذمُومٌ، فَمَن شُهِدَ لَهُ بِالخَيْرِ دَخَل الجَنَّةَ وَمَن شُهِدَ لَهُ بِالشَّرِّ دَخَلَ النَّارَ.
قالَ اللَّهُ تعالى: (وَكَذَٰلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِّتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا)
[البقره:143].
وعَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ ، قَالَ : مُرَّ بِجَنَازَةٍ فَأُثْنِيَ عَلَيْهَا خَيْرًا ، فَقَالَ نَبِيُّ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلَّمَ: (وَجَبَتْ وَجَبَتْ وَجَبَتْ) ، وَمُرَّ بِجَنَازَةٍ فَأُثْنِيَ عَلَيْهَا شَرًّا ، فَقَالَ نَبِيُّ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلَّمَ: (وَجَبَتْ وَجَبَتْ وَجَبَتْ) ، قَالَ عُمَرُ : فِدًى لَكَ أَبِي وَأُمِّي ، مُرَّ بِجَنَازَةٍ فَأُثْنِيَ عَلَيْهَا خَيْرٌ ، فَقُلْتَ وَجَبَتْ وَجَبَتْ وَجَبَتْ ، وَمُرَّ بِجَنَازَةٍ فَأُثْنِيَ عَلَيْهَا شَرٌّ ، فَقُلْتَ : وَجَبَتْ وَجَبَتْ وَجَبَتْ ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلَّمَ: (مَنْ أَثْنَيْتُمْ عَلَيْهِ خَيْرًا وَجَبَتْ لَهُ الْجَنَّةُ ، وَمَنْ أَثْنَيْتُمْ عَلَيْهِ شَرًّا وَجَبَتْ لَهُ النَّارُ ، أَنْتُمْ شُهَدَاءُ اللَّهِ فِي الْأَرْضِ ، أَنْتُمْ شُهَدَاءُ اللَّهِ فِي الْأَرْضِ ، أَنْتُمْ شُهَدَاءُ اللَّهِ فِي الْأَرْضِ) [رواه البخاري ومسلم].
(3) الكِبْرُوالتّواضُعُ
الكِبْرُ ظُلْمٌ لِلنَّفسِ، وَدَفْعٌ لِلحَقِّ، وَاعتِداءٌ على النّاسِ. وَلِأَجْلِ ذلِكَ حَرّمَهُ الشَّارِعُ وَجَعَلَهُ مِن كَبائِرِ الذُّنوبِ. وَالكِبْرُ دَليلٌ على خِفَّةِ العَقْلِ، وَخِسَّةِ الطَّبْعِ، وَفَسادِ الفِطْرَةِ، وَالبُعدِ عنِ الدِّينِ
وَمِن صُوَرِهِ السُّخرِيَةُ وَالبَغْيُ وَالعَجْرَفَةُ، وَالبَطَرُ وَالخُيَلاءُ.
وأمَّا التَّواضُعُ فَوَاجِبٌ شَرْعاً، وَحَقِيقَتُهُ العُبودِيَّةُ الصَّادِقَةُ لِلّهِ تَعالى ، وَقَبولُ الحقِّ مِن أيٍّ كانَ، وَإنزالُ النَّاسِ مَنازِلَهُم.
وَالتّكَبُّرُ كُلُّهُ مُسْتَقْبَحٌ مَذْمُومٌ، وَأمَّا مَقولَةُ (التَّكَبُّرُ على المُتَكَبِّرِ فَضِيلةٌ) فَالمَقْصودُ بِها وُجوبُ تَمَسُّكِ صاحِبِ الحَقِّ بِحَقِّهِ في مُقابِلِ تَعَصُّبِ صاحِبِ الباطِلِ لِباطِلِهِ، فَتَكونُ عِزَّةَ الأوَّلِ بِالحَقِّ تَرَفُّعًا معنًى على ذِلَّةِ الآخِرِ بالباطِلِ .
قال الله تعالى:﴿ تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لَا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَلَا فَسَادًا وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ ﴾ [القصص: 83].
وقالَ رسولُ اللّهِ صلى اللّهُ عليهِ وآله وسلّم: (لا يَدْخُل الجَّنَّةَ مَن كانَ فِي قَلْبِهِ مِثْقالُ ذَرَّةٍ مِن كِبْرٍ) [رواهُ مسلم].
(4) أدَبُ الاِخْتِلافِ
المُسلِمُ يَلْتَمِسُ لِأخيهِ أحْسَنَ المَخارِجِ وُجُوباً إنِ اقتَضَى الأمْرُ ذلِكَ فَالخَطَأُ مُتَوَقَّعٌ وَالسَّهْوُ وارِدٌ ، وَالاختِلافُ في الاِجْتِهاداتِ مُتَحَقِّقٌ وَفَوقَ كُلِّ ذي عِلمٍ عَلِيمٌ.
وَيَجِبُ تَحْكِيمُ الكِتابِ وَ السُّنَّةِ عِنْدَ الاِخْتِلافِ. وَلا يَكُونُ الحِوارُ مُجْدِياً حتّى يَخلُصَ لِوَجْهِ اللَّهِ تَعالى ، وَلِإحْقاقِ الحَقِّ فَحَسْب.
وَيَجِبُ التَّعامُلُ بِالمَحَبَّةِ وَالإنصافِ ، وَالتَّحاوُرُ بِالرِّفْقِ وَالتَّسامُحِ ، وَيَتَعَيَّنُ حُسْنُ الظَّنِّ بالخَصْمِ وَالإنصاتُ إليهِ ، وَمُناقَشَتُهُ في ما يَتَبَنَّاهُ مِن عِلمٍ أو فِكْرٍ أو اجْتِهادٍ ، وَيَحْرُمُ الكَذِبُ عَلَيهِ ، وَتَجْرِيحُهُ بِما ليسَ فيهِ ، فَإنَّ ذَلِكَ مِن البَغْيِ وَالفُجُورِ ، وَليسَ مِن عَمَلِ السَّلَفِ الصّالِحِ ، بَلْ إنَّهُ مِن شَأنِ أهْلِ الزَّيْغِ وَ الأهْواءِ.
وَكَانَّ العُلَماءُ يُوصونَ تَلامِيذَهُم بالحكمة، وَيَقولونَ: (أعْرِفوا الاِخْتِلافَ بَيْنَ المَذاهِبِ تَتَّسُِعُ صُدورُكُم ، فَإنَّ الأصْلَ في التَّضْييقِ ضِيقُ الباعِ).
قالَ اللَّهُ تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنكُمْ ۖ فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ۚ ذَٰلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا)[النساء: 59]، وقالَ رسولُ اللَّهِ صلى الله عليهِ وآله وسلّم: (إذا حَكَمَ الحاكِمُ فَاجْتَهَدَ ثُمَّ أصابَ فَلَهُ أجْرانِ، وَ إذا حَكَمَ فاجْتَهَدَ ثُمَّ أخطَأَ فَلَهُ أجْرٌ) [رواهُ البُخاري ومسلم].
(5) الوَظيفَةُ
الوَظِيفَةُ أمَانَةٌ لا غَنِيمَةٌ ، وَوَسِيلَةٌ لا غَايَةٌ؛ فَمَن حَمَلهَا بِحَقٍ أُعِينَ عَلَيهَا وَسَخَّرَهَا لِلعَامَّةِ وَأنصَفَ الخاصَّةَ، وَمَنْ تَقَلَدَّها بِظُلْمٍ وُكِّلَ إليها وَجَعَلَها لِلخاصَّةِ وَظَلَمَ العَامَّةَ.
قالَ اللّهُ تعالى: (إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَن تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَىٰ أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُم بَيْنَ النَّاسِ أَن تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ ۚ إِنَّ اللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُم بِهِ ۗ إِنَّ اللَّهَ كَانَ سَمِيعًا بَصِيرًا)[النساء: 58].
وقالَ رسولُ اللهِ صلى اللهُ عليه وآله وسلّم: (ألا كُلُّكُمْ رَاعٍ وَكُلُّكُمْ مَسْؤُولٌ عَن رَعِيَّتِهِ) [مُتَّفَقٌ عليه].
(6) جَرِيمَةُ القَتلِ
الأَصْلُ في الدّماءِ العِصْمَة ُ، وَحِفْظُ النّفوسِ مِنَ الفِطْرَةِ الإنسانِيَّةِ، وَمِن ضَرُورِيَّات الدِّينِ ، فَلا تُرْهَقُ إلّا بِحَقٍّ كَحَدِّ المُحْصَنِ الزَّانِي وَالقاتِلِ وَالمُرْتَدِّ.
وَحُرمَةُ دَمِ المُسلِمِ أعظَمُ عِندَ اللّهِ عزَّ وجَلَّ مِن هَدْمِ الكَعْبَةِ المُشَرَّفَةِ، بَلْ إنَّ زَوالَ الدُّنيا أهْوَنُ عِندَ اللّهِ مِن قَتْلِ المُسْلِمِ.
فَمَن أنقَذَ بَرِيئاً مِنَ القَتلِ كانَ كَمَن أحْيا النَّاس جَميعاً ، وَ مَن قَتَلَ بَريئاً فَكَأنَّما قَتَلَ النّاسَ جَميعاً ، وَلِأجْلِ ذلِكَ يُقتَلُ الواحِدُ بالجَماعَةِ وَ تُقتَلُ الجَماعَةُ بالوَاحِدِ.
وَ القَتْلُ بِغَيْرِ حَقٍّ شَرعِيٍّ جَريمَةٌ عَظِيمَةٌ مِن كَبائرِ الذُّنوبِ وَمُوبِقاتِ المُحَرَّماتِ. فَكُلُّ قاتِلٍ مُتَعَمِّدٍ فَجَزاؤُهُ القِصاصُ في الدُّنيا ، وَالنَّارُ يَومَ القِيامَةِ سَواءُ قَتَلَ بالرَصاصِ أو بِالتَّجْوِيعِ ، أو قَتَلَ بالأدوِيَةِ المُزَوَّرَةِ أو بالأطْعِمَةِ الفاسِدَةِ أو غَيْرِها.
قالَ اللّهُ تعالى: (وَمَن يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُّتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا)[النساء: 93] ، وقالَ رسولُ اللّهِ صلى اللّه عليهِ وآله وسلّم: (لا يَحِلُّ دَمُ امرِئٍ مُسْلِمٍ يَشْهَدُ أنّ لا إله إلّا اللّهُ وَ أنِّي رَسولُ اللّه ِإلّا بِإحْدى ثَلاثٍ : الثَّيِّبُ الزَّانِي ، وَالنَّفسُ بالنَّفسِ وَالتّارِكُ لِدِينِهِ المُفارِقُ لِلجَماعَةِ) [رواهُ البُخاريُّ ومسلم].
فاللهم أرنا الحق حقا وارزقنا اتباعه ، وأرنا الباطل باطلا وارزقنا اجتنابه ، ولا تجعل ذلك ملتبسا علينا فنهلك.