كتبت مرارا وتكرارا مؤكدا أن أزمة موريتانيا ليست سياسية بالمقام الأول، بقدر ما هي أزمة مجتمع مردها عقلية التخلف، التي تطبع بميسمها كافة مناحي حياتنا العامة والخاصة.
فالمتخلف يظل يعاني من متوالية النكوص الارتجاعي دون فكاك، فتتحول حياته الخاصة الي ضرب من الفوضى والتخبط والارتجال، والأدهى أن هذا المتخلف تجعله متوالية النكوص الارتجاعي يتصور نفسه مركز ومحور الكون! ويجعله هذا التصور عاجز عن إدارة شؤون حياته، فلا هو يفلح في العيش بطريقة سوية كغيره من الناس في باقي المعمورة، ولا يعرف كيف يدير شؤونه الخاصة، فيترك تربية الأولاد للحظ ولتجارب الحياة، فلا هو يعرف التخطيط او التحسب للغد وأخطاره، ويصل به الوهن حد العجز عن التعامل حتى مع مخلفاته (القمامة المنزلية)، وأخطر ما في هذه العقلية أن صاحبها يعيش حالة من توهم الواقع، أي أنه يعيش في وهم كبير يجعله يتجافى واقعه ويرفضه على المستوي الوجداني، مما يجعله عالة على الآخرين بطريقة فجة تصل الي حد الحق المقدس في نظره! بحكم توهم نفسه من نسل الملائكة ومن طينة فوق البشر.
تاليا وفي مستوي أرفع نجد الحياة العامة لهؤلاء المتخلفين (السياسة والاقتصاد والعلاقات العامة ......الخ)، ضرب من الارتجال والتخبط والتكسب الصفيق دون وجه حق.
وقد وضحت في دراسات ومقالات عديدة أن مرد - هذه العقلية المتخلفة التي يعيش تحت أسرها معظم شعبنا الموريتاني بفئاته وطوائفه وإثنياته - العديد من العوامل، لا يتسع المقام لتعدادها، لعل أبرزها تقاعس النخبة الثقافية عن أداء دورها التنويري في تطوير وتمدين المجتمع.
مصيبة مجتمعنا الموريتاني في نخبته العاجزة عن ممارسة دورها التنويري، وبالتالي تحولت الي معول هدم، ساهم في تخلف المجتمع، عبر ممارسات وسلوكيات غير سوية أمعنت في تجذير وتخلف المواطن الموريتاني، دون هوادة.
أراقب بحسرة المشهد العام في موريتانيا منذ ثلاثة عقود، وكل يوم أدرك أن البلاء الأعظم كامن في النخبة التي تمارس التخلف بكل تجلياته سواء منها التي تتمترس في صفوف المعارضة او التي تدعي الموالاة، في هذا الخضم الذي تلفه العتمة، تظهر نقاط ضوء بارزة كعلامات استرشاد، ورغم قلتها إلا أنها مع الوقت ستغدو مصابيح تضيء عتمة واقعنا الكالح والمظلم. من نقاط الضوء هاته، سيدي محمد ولد المصطفي (الخامس العلوي)، ذي الخطاب التوعوي، والتنويري.
يمتاز سيدي محمد ولد المصطفي (الخامس العلوي)، عن غيره من ممتهني السياسة عندنا (موالاة ومعارضة)، بأمور أربعة، جعلته نقطة ضوء، أوجزها في التالي:
1. طول النفس: معظم ممتهني السياسة عندنا، لا يتسمون بطول النفس، فهم يظهرون كالفقاعة ويختفون كسحابة صيف، لذا يفتقر هؤلاء للفعالية والنجاعة، ولا يحدثون التأثير المطلوب في عملية التغيير، فمعروف في عالم السياسية، بل من أبجدياتها أن طول النفس من أساسيات نجاح أي خطاب تنويري يراد به تغيير العقلية، والسيد الخامس ، من القلة التي تتسم بهذه الخاصية النادرة في مجتمعنا.
2. ثبات المنطلقات: المتخلف الموريتاني يري في السياسة وسيلة للاسترزاق وتقلد المناصب والقرب من صناع القرار، لذا يعارض بقوة ويكثر من الجعجعة، ويفجر في الخصومة ويتشفى بطريقة صفيقة، فالمتتبع لخطاب الخامس العلوي يلاحظ أن ثوابته ومنطلقاته هي نفسها منذ أن بدأ معارضته لنظام ولد الطايع ولاحقا نظام ولد عبد العزيز، حتى وبعد أن بات مؤخرا مقرباً من رأس النظام الحالي. هذا الأمر يعطي مصداقية ويعزز من الثقة بالخطاب وسط عالم حرباوي يتغير مع تغير المواقف والظرف!
3. التركيز وعدم التشتت: اتسم خطاب سيدي محمد ولد المصطفي بالتركيز على قضايا حقوق الانسان والحريات العامة والعدالة الاجتماعية، عكس خطاب الساسة عندنا الذين يتكلمون تقريبا في جل القضايا (السياسية والاقتصاد والفقه والشريعة وعلم الاجتماع وعلم النفس والقضايا العلمية والرياضة والفن.....الخ)، والسبب هوس مجتمعنا بالثقافة الموسوعية، الامر الذي أصاب هؤلاء بالتشتت نظرا الي انتقالهم من مجال الي مجال بسرعة البرق دون اكتراث بأساسيات التأصيل المعرفي، الأمر الذي أفقد هؤلاء القدرة على التأثير أو احداث التغيير المطلوب. وخلافا لما هو سائد عندنا اتسم خطاب الخامس حتى صيف 2019 بالتركيز علي قضايا محددة، جعلته معلما ونقطة ضوء ساطعة وسط جوقة أدعياء السياسة ودياجير التخلف.
4. الخطاب الشعبوي: تحرص نخبتنا الثقافية والسياسية على تقديم خطابها بلغة فصحي (عربية كانت او فرنسية) في استعراض عضلي فج للمهارات اللغوية وسط شعب جاهل ومتخلف ومريض وجائع، وبطريقة متعالية تشي بمرض نفسي كامن وعقد داخلية. إلا أن من السمات التي شدتني الي خطاب الخامس ، هو لجوئه الي لغة الشارع، اللهجة والتعبيرات المتداولة في حديث وكلام الناس اليومي، وأجده موفقا في توظيف الأمثلة والحكم الشعبية في ثنايا خطابه، وكنت كلما استمع اليه، أتذكر مباشرة خطابات أنطونيو غرامشي (أبرز مفكري اليسار العالمي في الربع الأول من القرن العشرين)، نلسون مانديلا، الخميني، ليخ فاليسا، هؤلاء الافذاذ الذين غيروا تاريخنا المعاصر، حرصوا دائما على الحديث بلغة الناس المحكية دون تكلف او تصنع.
الخطاب السياسي يعني الشكل(الآلية) والمحتوي، وممتهني السياسة في البرزخ المنكبي يرونها محتوي فقط من فرط تخلفهم، ويتجاهلون دون اكتراث بالشكل الذي هو مرتكز وأساس نجاح المحتوي، بل إن ظاهرة الخميني وليخ فاليسا كانت صوتية بالمقام الأول، وسر نجاحهما قدرتهما الفائقة على استمالة الجموع دون كبير عناء.
أختلف مع السيد الخامس في كثيرا من القضايا التي يتبناها، ولا أشاطره الرأي في بعض الاطروحات التي تشكل أساس تفكيره، لكنني مبهور بطريقته وأسلوبه.
هذا الاختلاف لا يقلل من قيمة ما يطرحه الخامس، فالاختلاف ظاهرة صحية، والتعدد ، إثراء وغني.
التغريد خارج سرب القطيع جعل السيد الخامس يدفع ثمنا باهظا جراء مواقفه وآرائه، على المستوي الشخصي والعام، وصلت حد اتهامه بالجنون من محيطه ووسطه الاجتماعي.
لا شك ان وهج خطاب الخامس وسطوته، قد تراجعت منذ صيف 2019، ربما بسبب المرض والتقدم في السن، إلا أنه لازال نقطة ضوء ساطعة بامتياز في عتمة ليل موريتانيا الطويل الجاثم على انفاسنا منذ ستة عقود ولازال مستمرا.
حفظ الله ورعي السيد الخامس ومتعه بموفور الصحة والعافية، وأرجعه سالما معافي الي أرض الوطن، بعد رحلة العلاج هذه.
الحسين الشيخ العلوي
04 أغسطس 2021 / تونس.