امحمد ولْ أحمديُورَ : شاهدٌ على عصره(عزالدين بن كراي بن أحمديور)

سبت, 07/04/2015 - 19:09

إذا كان الشعر الحساني للعلامة الشاعر امحمد ولْ أحمديورَ يُعطي فيما يعطيه خريطة جغرافية مفصلة لمناطق واسعة من بلاد الترارزة و ما جاورها، فإن شعره الفصيح يعطي صورة حية عن العصر الذي عاش فيه بكل تفاعلاته الاقتصادية و السياسية و الاجتماعية و الأدبية، حتي إننا لا ندخل في حيز المبالغة إذا ما وصفناه بأنه كان شاهدًا على عصره.

ففي الجانب السياسي المحلي تجده يتغنى شعرًا بموقف أبناء مجتمعه أنداك الرافضين للاستعمار الفرنسي أول ما دخل إلى هذه البلاد، و هو موقف اتصف على إثره امحمد بصفة السجين السياسي أياماً في المعتقل الاستعماري بالمذرذرة رمضان سنة 1908 :

يروم الرُومُ إذلال الـــــكرامِ °° و إعزاز الأراذل و اللــــــــــئامِ و لمْ أر من أمور الروم أمـــرًا °° كتجهيز الخـــــيام من الخيــــام فكمْ رامـــوا الطعام بلا ظهورٍ °° و كم راموا الظــــهور بلا طعــــام و كم راموا نقيصة ذي تـــمامٍ °° و يأبـــــى الله إلا بالـــــــتمام

و على نطاق أوسع لم يكن امحمد بالغائب عن الأحداث الدولية الدائرة آنذاك، ففي أثناء الحرب العالمية الأولي تراه يقرض أبياتا يشجب فيها موقف الدولة العثمانية و سلطانها : محمد رشاد الخامس، و كأنه يتكلم بلسان حال المواطن العربي الثائر على الحكم العثماني الساعي آنذاك للتحرر من سيطرة الرجل المريض التي عانى منها لمدة قد تقارب الأربعة قرون :

لقد وثب التركيُ للحرب ضـــــلةً °° وُثوب مُريــــدٍ للفـــساد مــَــــريدِ و قد بان أن التُركَ ليـــست رشيدةً °° و ليس رشادٌ خامـــــــــــسٌ برشيد

و من الطريف انه ‏‏اتفق مرةً في أيام الأمير اعل ولد محمد لحبيب أن عُدِم القمحُ في السنغال فكان الخبازون يلجؤون إلى زرعٍ أسودَ يُدعى السويد بالتصغير فيأتي خبزُهم أسودَ كلون أصله. و من المعروف أن الأ ميرَ إعْلِ كان أسودَ البشرة بسببِ خؤولته من ملوك النهر، فأمه : إچنْبتْ مَلِكَة والو الشهيرة. وكان امحمد يومها جنوب النهر فلمْ يسمحْ له حِسُّهُ التراثي و التاريخي و الأ دبي إلا أن يسجل كل ذلك، فقال مُتغزِّلا :

يا حبَّذا سوداءُ ذاتُ مَلاحةٍ °° في الحُسنِ ليس لها شبيهٌ يُوجدُ لا تحسبوا ذاك السَّوادَ يضُرُّها°° فالخُبزُ أسودُ و الخليفةُ أسودُ

و كان امحمدْ مرَّةً في مدينة سينلوي التي ارتادها كثيرًا و كان الزمن زمنَ وباء ألزمت فيه الإدارة الفرنسية آنذاك الناس حُقنةً (شرطة) تفاديًا لعموم العدوى، و كان صاحب محطة القطار (الڭارْ) بالمدينة يعاين ذراع كل راكبٍ قبل صعوده حتى يرى أثر الحُقنة في جسده.

وكان البُداةُ الموريتانيون حينها إذا لقي أحدُهم من تناول الحقنة أخذ شوكة و غمسها في محل حقنة صاحبه ثم حقن بها نفسه ظناً منهُ أن ذلك يكفيه. فقال امحمدْ مخاطبًا صاحب المحطة مُستحضرًا رصيده الأصولي و المنطقي :

يا صاحبَ الكار لا تتعبْ بلا سَببٍ °° فَفاقدُ الشرطِ لا يأتي بمشروطِ و النّاسُ ما بين مشروطٍ مُباشرةً °° أوْ آخذٍ شرطةً مِنْ عِندِ مشرُوطِ

و قد نالت الظواهر الجوية و الأحداث الطبيعية في ديوانه نصيبا ليس بالقليل. فيقول مسجلا و واصفا إحدى ظواهر الكسوف التي كان لها وقعٌ كبيرٌ في نفوس أبناء ذلك الزمن المستحضرين للآخرة و كل ما يُذكر بها:

الشمسُ مُخضـــــرَةٌ في زٍيٍ مِرآة °° و الجوُ فيه احْمرارٌ قطُ لمْ ياتــــِــــي إن لمْ يكنْ من علامات القــــيامة ذا °° فإنــــــــه من علاماتِ العـــلاماتِ

و يقول علي وجه الاعتبار في داءٍ أباد البقر سنة 1309 هجرية، يعرف محليا ب : بُمُرارَ :

أرَي الدُنيـــا معظمُها حقـــيرُ °° كما أن الغَنِيَ بـها فقــــــيرُ كفا وعظًا لداري الوعظ فـــــيها °° أبو مُـــرارةَ العـــادي المغيرُ و إِصباحُ الجَـــــداولِ مُترعاتٍ °° زُلالاً ما يُسرُ بــه البَقـــــيرُ و إِعجابُ الوَقيـــــرِ و ما حواهُ °° لمن قدْ كان يُخــجلُهُ الوقــــيرُ

و إذا كان امحمد قد سجل عبر مراثيه وفيات أعيان العلماء و الأدباء في هذه الربوع من أمثال الشيخ سعد أبيه بن الشيخ محمد فاضل و العلامة الأديب محمذن بن علي الأبهمي و العلامتين البراء بن بكي و محمذن بن بابكر بن احجاب الفاضليين و العلامة المختار بن الما اليدالي، فإنه يذهب جنوب النهر ليسجل وفاة الأديب و الشاعر السنغالي الأندري : مالك سيسَ المعروف ب : ماجُورْ سيسَ :

يارحمة من ربنا المالـــكِ °° جُودي علي قبر الفتى : مالكِ جُودي على قبر فتًي ماجـدٍ °° كالشافعي في العلم أوْ مـالكِ مُبدى خفايا العلم من سترها °° جالي دياجي ليلها الحالــكِ إن كان في زماننا ناســكٌ °° فأنت عين الناسك السـالكِ هلكتَ والمُبقي جميــل الثـنا °° بين البرايا ليس بالهالـــك

و لكنه أيضاً يدون في شعره وفاة الفناة الشهيرة : فاطمة السالمة بنت البُبَانْ دفينةِ تِنْدكصالَ :

يا روضةً عندَ تندكصالَ حُيــــِيتِ °° و من أذًي و صدًي في القلبِ نُـــــــــجِيت يا ذاتَ صوتٍ و صيتٍ عندَ فقدهما °° لم يبق في الحَــيِ منْ صوتٍ و لا صــــــيتِ

و بحكم مكانته الأدبية، يؤدي شهادته على أشعار معاصريه مشتكيًا برودتها في قطعةٍ، ناقدًا ما دأبوا عليه فيها من إطالة في النفس و إغرابٍ في الألفاظ في قطعة ثانية، محذرًا من اجترار المعاني القديمة المطروقة في قطعةٍ ثالثة. فيقول في الأولي :

أشعارنا أهل هذا العــصر باردةُ °° لمْ تُشوَ شَيًا و لمْ تُطـــــــبخْ بأبــزارِ لوْ أنهمْ أحضرُوني شأنها وُضِعتْ °° مِنْ بعدِ ما مُلِـــــحتْ شيــئًا علي النارِ

و يقول في الثانية :

أيا أيها الشُـعرورُ لا تكُ ناطــــــقًا °° بشعرٍ ينِي عن فهمِه المــُـــتنــاوش و لا تُطلِ الأشـــعارَ في غيرِ طائلٍ °° فشرُ القريـض الطائلُ المُـتـــــــفاحشُ و لا خيرَ في شِعرٍ يَعـزُكَ فهمـه °° إذا هوَ لمْ تُوضعْ عــــــــليهِ الهوامــشُ

بينما يقول في الثالثة:

أبناءُ ذا الدهرِ لي عن شعـرهمْ أنفٌ °° حتي يكون - و أنَّى- روضـــةً أنِفــا كمْ كِلمةٍ لِيَ في الأحشاءِ مودعــةٍ °° لا أُودعُ الصَحبَ معناها و لا الصُحــــفا و كمْ عفوتُ عن الجاني و قلتُ لهُ: °° إن الجفاءَ جديرٌ بالــــذهابِ جُــــفا لا يُعجِبنَّك إلا قولُ نابـــــغةِ: °° يا دارَ ميَةَ أو قولُ الضّـَليلِ: قـِـــــفا

و تراه ينوه بالحركة العلمية التي بلغت أوجها في ذلك العصر كقوله في تأليف عمه و شيخه العلامة لمرابط ببها: دمية المحراب في المهم من التصريف و الإعراب:

حَبــَتِ المُطالع دميةُ المحرابِ °° بنوادرِ التصريفِ و الإعرابِ ما دُميةُ المحرابِ بلْ حاشي لها °° في الحُسنِ إلا دُميةُ المحرابِ

و يقول في تأليف للعلامة سيدي أحمد بن الصبار المجلسي من أبيات :

فاق التصانيفَ تصنيفٌ أتيتَ به °° بين التصــــانيف مفهـــومًا و منطوقا و المرء يأتي بما قد فات تكملةً °° بعد الإمامِ إذا ما كان مــــــــسبوقا

و في جانب آخر من ديوانه تلقي ولادات الأطفال من حوله طريقها إلى التسجيل كقوله مُدللًا مولودًا لصديق له اسمه: مولودْ:

أدخلتُ في جيب طه ثمَ مَن نُــــــودي °° مِنْ جانب الطــــــــــورِ مولودًا لمولودِ ما قِيسِ مولودُ بالفتيانِ قطُ و مــــــا °° يُقاسُ مـــــولودُ مولودٍ بمولـــــــودِ

و فضلا عن كل ذلك، يتحفنا امحمد بمراسلات قصيرة في شكل لقطات من حياته، تارةً في مجلس غناء يمتزج فيه الطرب بالشوق :

تضاعفَ وَجدي حيــن قالت فرددتْ °° دعوناك مولانا بأسمائك الحُسني فلما رأتْ وَجْدي تضــاعف أنشدتْ °° لِتُذهِب عنا الهمَ و الغم و الحزنا برناتِ لحنٍ مَعبديٍ لعلـــــــنا °° نكونُ من الحُسني بِهنَ إلي الحُسني

و مرةً في مدينة سينلوي مترددا على بيوتات من مشاربَ مختلفة :

لولا الإله لما قلــــَلــتُ إتيانا °° بيتِ الشريفِ و بيتِ الخـودِ : دَيَانا فبيتُ ذا بظريفِ الشِعرِ أضْحـكنا °° و بيتُ ذي بثقيلِ الشــوقِ أبكانا

و تارةً أُخرى في مجلس أدب بالبادية يتناشدُ فيه الأشعار مع بعض ظرفاء و أدباء ذلك العهد على غرار صديقه الشاعر لكبيدْ بن جِبَ التندغي :

و إن أنسَ مِ الأشياءِ لا أنسَ ليلةً °° سقانا بها لكبيدُ من شعره صرفَا فتيً ماجدٌ حُلوُ الفُكــاهة طيبٌ °° أديبٌ مع الجُلاسِ ما يمرڭُ الحرفا و إن أنبتتْ أقوامهُ كُلَ ڭُــفةٍ °° تراهُ قصيرَ الرأْسِ ما يُنبتُ الڭُفــــا و إن حَفتِ الاقوامُ بينَ غُيودهمْ °° فلِكبيدُ بين الغيدِ و الله ما يَحْـــــفَي

و بالرغم من هذه المواكبة الظاهرية لمجريات الحياة في عصره، فقد كان امحمدْ رجلَ حقيقةٍ شرب كاساتِ خمر السر حيثما أُدِيرتْ. و لعل في أبياته التالية إشارةٌ منه لما نقول :

لا يذْهبنَّ بكَ الخــيالُ الـــــزائــرُ °° في الليلِ يُلفَي و الخــــــــليطُ السائرُ و الظبيُ يُوصفُ كُلَ وصفٍ رائـــــقٍ °° و الدُورُ تُندبُ و الرُسومُ دَواثــــــــرُ يُبدي البليغُ صبابةً في شِــــــعره °° و اللهُ أعلمُ ما أرادَ الشــــــــــــاعرُ.

عزالدين بن كراي بن أحمديورَ